منبج مدينة عريقة ازدهرت واندثرت أكثر من مرة وبقيت حية عامرة بتاريخها الحضاري والثقافي وكانت محطة تجارية هامة على طريق القوافل ما بين بلاد الرافدين وشواطئ البحر المتوسط ومصر أيام الامبراطورية الآشورية وبخاصة في أيام حكم نبوخذ نصر وشلمنصر اللذين جعلا من منبج قاعدة عسكرية وتجارية ينقل عبرها خشب الأرز إلى بلاد آشور.
عرفت منبج عند الآشوريين باسم "مابيجي" وبالسامية "منبوج" وتعني بالسريانية (المدينة المقدسة) وذكرها الإغريق باسم (بنبج) ثم أصبح اسمها هيرابوليس وسماها الرومان بامبوك وفيها تزوج الامبراطور جوستنيان من الأميرة المنبجية السريانية يودورا وأصبحت أيام الامبراطور كومستانس عاصمة لمنطقة الفرات وقد سادها الرخاء وصارت مركزاً عسكرياً متقدماً للجيش الروماني في صراعه مع الفرس وأقام فيها الامبراطور جوليان عام 263م لأيام عدة أثناء ذهابه لقتال الفرس حيث قتل في المعركة وقد اشتهرت منبج بمعبدها وبحيرتها المقدسة ودخلها المسلمون سلماً أيام ابي عبيدة بن الجراح عام 16هـ بموجب اتفاقية مع قبائل تغلب المسيحية التي كانت تعيش فيها, وقد جعلها هارون الرشيد عاصمة لجند العواصم وولى عليها المحدث المشهور عبد الملك بن صالح, وكان أول مسؤول يعيد بناء منبج بعد أن دمرها زلزال عام 748م حيث تهدمت البلدة بكاملها وما بقي من معابدها, كما تهدمت أهم الكنائس المشرقية السريانية وهي كنيسة اليعاقبة المصنوعة من خشب الأرز وكنيستا السيدة مريم والقديس توما وبقيت المدينة بعدها عامرة وموقعاً متقدماً للمقاومة ضد الروم البيزنطيين أيام الحمدانيين حيث وقعت على أسوارها حروب ضارية مما أدى إلى تهديمها ثم أسر حاكمها وفارسها الشاعر أبو فراس الحمداني في إحدى هذه المعارك عام 926م وقد كتب في سجنه روائع شعره "الروميات" وصف فيها جمال الطبيعة في منبج وتغنى بمياهها وبساتينها وحنينه إلى والدته, وعتبه على ابن عمه سيف الدولة لتأخره في إفدائه.
وفيها يقول:
لولا العجوز بمنبج ما خفت أسباب المنية
ولكان لي عما سألت من الفدا نفس أبية
يا أمتا لا تيأسي لله ألطاف خفية
احتل الفرنج منبج عام 1110م واستعادها منهم صلاح الدين الأيوبي عام 1175م حتى جاء المغول من الشرق واستولى عليها تيمورلنك وجعلها مقراً لقيادته وتجميع قواته ثم هدمها كلياً قبل أن يتجه إلى احتلال حلب وظلت منبج خربة ضامرة من كثرة الدمار الذي لحق بها طيلة خمسة قرون ثم عادت إلى الحياة من جديد وهي مثال للتعايش المشترك بين مختلف مكوناتها الديموغرافية.
ومنبج هي بلد الشاعر العباسي البحتري وفيها ولد وتوفي (206-284) بعد أن رحل إلى العراق ومدح الخليفة المتوكل وكان ثالث ثلاثة في فرسان الشعر آنذاك وقد فضله المعري بقوله (أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري) وقد تغنى بطبيعتها الخلابة وأبدع في وصفها وقد أثرت منبج برياضها وخضرتها في مشاعره وأفكاره وأسلوبه فأعطى أرق وأعذب وصف عن الطبيعة والجمال في شعره.
وهي أيضاً بلد الشاعر دوقلة المنبجي الحسين بن محمد وإليه تنسب القصيدة المشهورة باليتيمة ويحكى عنها أن أميرة أعلنت أنها ستتزوج بصاحب أفضل قصيدة يصفها فيها فجاءها دوقلة باليتيمة وفي الطريق غدر به مصاحب له وقتله وانتحل القصيدة فكشفت الأميرة جريمته, وفيها يقول:
هل بالطلول لسائل رد أم هل لها بتكلم عهد
إن تتهمي فتهامة وطني أو تنجدي إن الهوى نجد
ومنبج هي بلد الفنان والشاعر عقيل المنبجي المتوفى عام 550هـ والذي ينسب إليه فاصل اسق العطاش ورقص السماح, وهي أيضاً بلد الشاعر الكبير عمر أبو ريشة (1910 - 1990) ومما لا شك فيه أنه كان لغوطة منبج وطبيعتها الخلابة تأثيرها في عذوبة شعره ورمانسيته ولا تزال منبج إلى اليوم غوطة الشعراء ونذكر منهم الصديق الشاعر أحمد منلا غزيل الذي يحرص على حضور الأمسيات الأدبية في حلب والمشاركة فيها, ويتصف شعره بالرقة والجمال والالتزام.
المصدر جريدة الجماهير